دائما ما كانت الأفلام حياة لنا، وستظل كذلك إلي الأبد، مهما كانت نوعها ومهما كان الغرض من مشاهدتها، فهناك من يشاهدها من أجل المتعة فقط وهناك من يشاهدها من أجل رؤية حيوات أخري، لطالما كانت هناك تلك الأفلام التي تعيد تذكيرنا، بواقعنا تعلمنا كيفية التعامل معه عندما نود الهروب منه، عندما يصل بنا إلي الحضيض.
تعلمنا تلك الأفلام كيف يمكننا أن نثور علي واقعنا، نغير ونبدأ من جديد دون الحاجة إلي أحد بل الحاجة إلي أنفسنا، وتعلمنا أيضا كيف نرتبط بالخيال سواء كانا خيالا يناقش قضية معينة أو لعالم أخري، وتجعلنا نري الحياة بشكل أخر، نري ما كنا نفعله بعين أخري، تلك العين التي نري بها عند مشاهدة ذلك النوع من الأفلام، هي التي تبقينا علي قيد الحياة، دون حزن ودون ألم، تلك الأفلام بوسعها أن تعطينا لمحة عن الحياة والأحلام والحب، وشعورنا في تلك الحالة، وهنا في تلك القائمة بعضا من تلك الأفلام التي وسأتحدث عنها.
The Father
بأجواء مشابهة لفيلم هانكه “آمور” وبألحان مشابهة لألحان فيلم كوجي فوكادا “الهرمونيوم”، فلوريان زيلر يعيد تذكيرنا من جديد بأننا بدون ذكرياتنا، سنكون غير موجودين، كالأشباح، لكن الذكريات ليست كفيلة لتحل مكان السيناريو والحوار الذي يظهر بشكل بسيط ويبدو خالي من المفردات اللغوية الثقيلة والدسمة ولكنه متكامل بما يحتوي من مشاعر ولحظات صمت والكثير من الجمل الإستفهامية وصيغ تعجب وأساليب تهكمية، وعندما نتحدث عن الإخراج فإنه جاء بشكل متوازن وغير متوقع وقادرا أن يعرف ويدمج كل العناصر الفنية بمنتهي الدقة وبمعايير مدروسة وأيضا أن يحقق معادلة صعب جدا تحقيقها بتداول معطياته بمرونة وسلاسة وقدرته علي الإحلال والتبديل بمهارات وحرفية تستحق الإشادة.
فقدان للذاكرة، تشوش في تذكر ومعرفة المعلومة، عسر الاستيعاب، كلها من علامات مرض الزهايمر و الذي يترصد ويصيب الكثير من العجزة عبر العالم، الكثير من المجتمعات لا تعتبره مرضاً من الأساس، لا يوجد حتي في قاموسها، يتحول العجوز لطفل صغير يفتقر للكثير من المزايا التي كان يملكها عما قريب، يضحى عاجزا عن مساعدة نفسه في أتفه الأمور، قد لا يكون عليلا بدنيا لكن العلة أجهزت على دماغه، يعرض الفيلم دراسة نفسية و مرضية لهذه الحالة لدى عجوز تجاوز سنه الثمانين، يختلط عليه الجميع و يعيش يوميات شبه مكررة ملؤُها الضبابية والتيه، انبرى لهذا الدور “أنتوني هوبكينز” و الذي يذكرنا هنا بمعدنه النفيس في التجسيد و التقمص، الرجل لا زال في جعبته الكثير و قد برهن على ذلك هنا بأداء أقل ما يمكن وصفه أنه ممتاز.
لا يمكنني أن أصف مشاهدة هذا الفيلم سوى أنها مزعجة، وأشعرتني بالإرتباك طيلة الوقت، كانت تجربة أشبه بالرعب النفسي، والأسوء من ذلك أن فئة من المجتمع تعاني مثل هذه الحالات، الأمر أشبه بتحول الإنسان من شخص عاقل قادر على تميز الصواب من الخطأ، إلى ذكريات تتنقل بين الماضي والحاضر بشكل عشوائي لتبقيك في حيرة عن الخط الزمني، ليشكك في أدنى الأمور حتى نفسه.
Mulholland Drive
فكر بأسوأ ليلة مرت عليك، تلك الأطول والأكثر تعقيدا، الفيلم مشابه لما يمكنك مشاهدته في مسلسل توين بيكس، جنون ديفيد لينش، نفس طريقة الحديث التي يتحدث بها الشخصيات وغرابتها وجمالها، فتجدهم في أسوأ حالتهم بسبب كوب قهوة سئ، حتي أن الموسيقي مشابهه وفي الحالتين رائعة، مشاهد الغناء كان لها هنا سحرها الخاص أيضا، أجدني في كل مشهد أغوص في خيال لينش وأفكاره.
توقف عن الكلام كرجل مستسلم للأحلام، أتعرف عندما تمضي الساعة الثانية عشر ومازلت مستيقظا؟، تغرق في التفكير والأحلام لساعات، وتحاول النوم لأنك تظن أنه سيفي بالغرض ومن ثم يأتي اليوم التالي وتعلم أن ما كنت تفكر فيه لم تكن حياتك إلي أن تأتي نفس الساعة الثانية عشر، هنا شخصيات ديفيد لينش توقفت ساعتهم عند الثانية عشر ولم يأتي الصباح، عندما تقرر أن تهرب مما يحدث في حياتك لساعات قليلة، أن تهرب من المشاعر التي تحاوطك، وتقرر مشاهدة فيلم، فيتوجب عليك مشاهدة فيلم أبطاله يهربون أيضا، ليصنعون عالما خياليا، فتتقاطع الطرق، وتبكي معهم، نعم أحيانا لابد أن تبكي.
في الحياة من الممكن أن تتوقف وتلقي نظرة علي كل ما فعلت وتلملم شتات نفسك لتنهض من جديد، لكن علي طريق مولهولاند، كل شيء متسارع، كل شيء لا يرحم، ولو توقفت للحظة لتلقي نظرة علي نفسك لن تستطيع لأنك أنت في الحقيقية غير موجود، ولن تكون أبدا، أعلم أنها مقارنة غريبة، لكن نفس الحالة التي أجدها في أفلام المخرج داوود عبد السيد هي نفسها التي أجدها وأشعر بها وأحبها في أفلام لينش، نفس الحالة الروحانيه، خصوصاً لو تحدثنا عن فيلم “البحث عن سيد مرزوق” لداوود عبد السيد الذي قام ببطولته الراحل نور الشريف.
Samsara
فاكهة سنوات من التجوال والتصوير عبر قارات العالم، رحلة لا تنسي ليست للبحث عن الجمال، تحمل في طياتها الكثير من المعاني، رحلة تتحدث فيها الأماكن مباشرة نحو قلوبنا وليس الأشخاص، الجمال كان رفيقنا في تلك الرحلة يسبقنا بخطوة ليري ويتعجب، ليقف في نهاية الطريق أمامنا وكأنه يقول أن كل هذا ضرب من الجنون، انت هنا أمام فيلم لا يمتلك قصة وحوار ويعتمد على اللقطات القوية والمشاهد المؤثرة وسلسلة الصور المهيبة والممتعة للنظر وفي غاية الجمال بعدسة سينمائية 70 ملم، من إخراج رون فريكه و إنتاج مارك مجدسن، سبق و تعاونا في إخراج تحفة فنية بعنوان “بركة” في عام 1992 وتتحدث في نفس الموضوع الذي يتحدث عنه فيلمنا هذا، فيخطوا وراءه نفس الخطوات في أسلوب التقديم المبهر.
Your name
شخصان غريبان يتصلان ببعضهما البعض بطريقة غريبة جدا حتى أنهم لا يعرفون ذلك، لا يعرفان بعضهما ولم يكن في مخططات الزمان أن يعرفا بعضهما البعض، ما يفصلهما عن بعض هو المكان فقط، الخيوط تتشابك وتلتحم، تعقد وتحل من جديد، لكل منها مجرى خاص به ومسار لا يحيد عنه، هكذا هو الزمن كيف لك أن تبحث وتستقصي عن دولة أو مدينة لم تزرها من قبل قط، بل لم تكن تعلم بوجودها من الأساس، بل أن قلبك يتحسر ويحزن على كل شي فيها ولا تعلم ما السبب، القلب له طُرقه الغريبة في العمل ففي بعض الحالات حتى العقل لا يعرف كيف يعمل القلب ولا القلب يعرف كيف يعمل العقل، لن أتحدث بأكثر من ذلك عن قصة الفيلم وكم أود الاسترسال في ذلك ولكن أريد الاستمتاع بالصمت والذهول الذي سيحصل لكم عند مشاهدته.
وهذا بسبب أن ما رأيته قبل قليل يعد ظاهرة في عالم الإنيمشن بل ظاهرة في عالم الأفلام عموما، ذُهلت كذهولي عند مشاهدتي لأفلام كريستوفر نولان، كيف استطاعوا التفكير بقصة كهذه توقعته يكون رائع ولكن كلمة رائع تعبر إهانة بحقه، انتظروا قليلا فكل مرة أقوم بمشاهدة الفيلم والكتابة عنه الأفكار تلتهم عقلي، أشعر بعقلي ينبض وكأن الكلمات تتدافع بالداخل، لا أعتقد بأن هنالك عقل قد يناقض أو ينقص من هذا العمل، عبارة “لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع” لا تنطبق هنا بتاتا فالأذواق لا يمكن بل لا يحق لها أن تختلف.
أتمني أن تستمتع بأحد هذة الأفلام، فجميعها تجارب ستكون ممتن بعد مشاهدتها، وستكون جزءا منك بشكل أو بأخر، لأنها ستظل معك وستغير طريقة نظرتك لواقعك.