شخصية مُثيرة، إذا أبحرت بداخلها، ستتلاقى أمواج كثيرة من الأدب والفلسفة، رجلُ شغل الناس بأراءه وأفكاره التي خرجت عن طريق ما يزيد عن الثمانين كتابًا، تتألف من قصص وروايات ومسرحيات، ومؤلفات اجتماعية وفلسفية وعلمية وأدب الرحلات، فضلًا عن آلاف المقالات في الصُحف والمجلات المخلتفة، وبرنامج تلفزيوني امتد لأكثر من ثمانية وعشرين عامًا، عالق في أذهان الجميع لجمال تتر البداية، إنه العالم والمُفكّر الراحل مصطفى محمود، المُنتصر على نفسه وغالِب الظن والشكوك بالعلم والمعرفة والرجوع إلى الله.
حياة مثيرة للجدل، عاشها العالم الراحل من عالمنا منذ أكثر من عشرين عامًا، ما بين مؤلفات خالدة و400 حلقة من العلم والإيمان وفكر إلحادي تغلب عليه بدراسة الأديان الأرضية والسماوية، وصولًا إلى القرآن الكريم، الذي وجد فيه ضالته وسلامه الروحي.
عين على كلية الطب والأخرى في الكتابة والأدب
وُلد الدكتور مصطفى محمود في محافظة المنوفية في عام 1921 جنبًا إلى جنب مع شقيق توأم لم تُكتب له النجاة حيث توفي في نفس العام، وعاش في مدينة طنطا بجوار مسجد السيد البدوي الشهير أبرز المزارات الصوفية في مصر، والذي كان له أثر عليه طوال حياته لم يُمحى.
كان المُصطفى متفوقًا في دراسته ليس من سماته الكسل أو البلادة، ولكن العلاقة الوردية بينه وبين المدرسة انتهت حينما تلقى بعض الضرب على يد مُعلّم اللغة العربية ليُقرر الابتعاد عن الأجواء التعليمية لمدة ثلاث سنوات حتى يرحل ذلك المُدّرس، وهو ما حدث بالفعل، ليعود بعد ذلك إلى المدرسة مُفعمًا بالطاقة والرغبة في التفوق الدراسي.
“المشرحجي” هو لقبه في تلك الفترة، والذي أتى عندما قام بإنشاء معملًا صغيرًا في منزله، يقوم فيه بصنع المُبيدات الحشرية ليقتل الصراصير ويقوم بتشريحها لاحقًا، حبه لذلك الأمر جعله يلتحق بكلية الطب وهناك استمر في ممارسة هوايته المفضلة وهي الوقوف بتمعن أمام أجساد الموتي والتأمل بشأن سر الحياة والموت وما هي المرحلة التي تليهما.
تخرج مصطفى محمود من كلية الطب بتفوق ونجاح وتخصص في جراحة المخ والأعصاب، ولكن كان عقله وشغفه مُتعلقًا بالأدب منذ أن كان طالبًا، حيث كانت تُنشر قصص قصيرة له في مجلة روز اليوسف التي عمل بها فترة بعد تخرجه الدراسي، مما دفعه للتركيز على ذلك الطريق واحتراف الكتابة الأدبية، ولكن جاء قرار الرئيس جمال عبد الناصر بعدم إمكانية الجمع بين وظيفتين كالصاعقة، ليتخلى مصطفى عن عضويته في نقابة الأطباء وكتابة سطور نهايته في مزاولة المهنة الطبية، والتركيز بدلًا من ذلك على الأدب والانتماء إلى نقابة الصحفيين.
وعندما عندما تم سؤاله عما يُشجعّه على أن يكون أديبًا وفنانًا؟ أجاب بأن ”للطب صلة وثيقة بالحياة وخفاياها وأسرارها، فالطبيب هو الوحيد الذي يكون حاضرًا لحظتي الميلاد والموت، وهو الذي يعرف أسرار نبض القلب بمجرد وضع يده عليه، وجميع الناس يخلعون ثيابهم وأسرارهم، بين يدي الطبيب، وبما أن الطب علم، والأدب علم، فالتكامل في الحياة البشرية قضى بأنه لا غنى لأحدهما عن الآخر، يعني الطب والأدب، وكذلك الطبيب والأديب“.
فترة من الضلال تلاها إيمان تام
في فترة شبابه كان التيار والفكر السائد حينها هو “المادية”، وكان المثقفون يرفضون الاعتراف بالغيبيات، فكان طبيعيًا أن يتأثر الدكتور والأديب مصطفى محمود بما هو من حوله، ولذلك كما يقول في أحد كتبه: ”احتاج الأمر إلى ثلاثين سنة من الغرق في الكتب، وآلاف الليالي من الخُلوة والتأمل مع النفس، وتقليب الفكر على كل وجه لأقطع الطرق الشائكة، من الله والإنسان إلى لغز الحياة والموت، إلى ما أكتبه اليوم على درب اليقين“.
وبالرغم من اعتقاد فئة عريضة من المجتمع حينها بأن مصطفى محمود طوّر فكرًا إلحاديًا وأنكر وجود الله عز وجل، فإن الحقيقة الفلسفية التي كان يبحث عنها هي مشكلة الدين والحضارة، أو العلم والإيمان، وما بينهما من صراع متبادل أو تداخل؛ ففي كتابه “رحلتي من الشك إلى الإيمان” قال كلماتٍ من ذهب سحرت عقلي عندما قرأتها للمرة الأولى: ”إن زهوي بعقلي الذي بدأ يتفتح، وإعجابي بموهبة الكلام ومقارنة الحجج التي تفردت بها، كان هو الحافز، وليس البحث عن الحقيقة ولا كشف الصواب، لقد رفضت عبادة الله لأني استغرقت في عبادة نفسي، وأعجبت بومضة النور التي بدأت تومض في فكري مع انفتاح الوعي وبداية الصحوة من مهد الطفولة“.
الوصول لليقين بعد رحلة من الشك
ومع هذا العقل المُفكر الذي لا ينفك عن التأمل بدأت رحلة مصطفى محمود في العالم العقائدي. وعلى الرغم من هذه الأرضية المادية التي انطلق منها؛ فإنه لم يستطع أن ينفي تواجد القوة الإلهية، فيقول: ”تصورت أن الله هو الطاقة الباطنة في الكون، التي تنظمه في منظومات جميلة، من أحياء وجمادات وأراضٍ وسماوات، هو الحركة التي كشفها العلم في الذرة وفي الـ”بروتوبلازم” وفي الأفلاك، هو الحيوية الخالقة الباطنة في كل شيء“.
تحدث مصطفى محمود عن صوت الفطرة الذي حرره من سطوة ونفوذ العلم، وأراحه من عناء الجدل، وقاده إلى التقرب من الله ومعرفته عن قرب، وكان ذلك بعد أن تعلّم، في مُجلدات الطب أن النظرة العلمية هي الأساس الذي لا أساس سواه، وأن الغيب لا حساب له في الحُكم العلمي، وأن العلم ذاته هو عملية تتمثل في جمع شواهد واستنتاج قوانين.
العلم والإيمان وحقبة خالدة في تاريخ التلفزيون المصري
خاض الدكتور مصطفى رحلة شاقة بدءًا من الشك ووصولًا إلى اليقين والتي كانت واجبة وضرورية من أجل فض الاشتباك القائم بين العلم والإيمان، وذلك عن طريق ارتقاء الإنسان بالمادة إلى ما هو أبعد أفقًا.
ويبدو أن هذا الأمر وراء أن يخصص جزء كبيرًا من حياته ويُركّز كامل جهوده على مشروع واحد فقط وهو برنامج “العلم والإيمان”، سرد مصطفى محمود بالفعل مراحل هذا المشروع من خلال ثمانية كتب، وحينما وردت على خاطره فكرة ذلك البرنامج كان تنفيذها على أرض الواقع أمرًا أقرب إلى المستحيل، فقد قام بعرضها على التليفزيون المصري الرسمي فخصصوا له ميزانية إنتاج تبلغ 30 جنيها مصريًا فقط للحلقة الواحدة! في حين أن البرنامج كان يستلزم السفر لخارج البلاد ومتابعة أبرز وآخر الأبحاث العلمية، وهو ما خلق مجالًا لليأس للتسلل إلى عقله، حتى جمعته الصدفة برجل أعمال شهير، فتجاذبا أطراف الحديث سويًا فيما يخص أمر البرنامج، فإذا به يقوم بما كان يحلم به وهو إخراج دفتر الشيكات من جيبه، قائلا له: “لن أناقشك البتّة في الميزانية والنفقات، ولكن من المهم أن يرى هذا العمل العلمي والديني القيّم النور”.
حقق البرنامج نجاحًا ساحقًا، ونجح في خلال فترة قصيرة من اجتذاب قاعدة جماهيرية كبيرة نظرًا لأسلوبه الذي أسر به عقول وقلوب البسطاء قبل العلماء، ولكن على الرغم من ذلك النجاح الشعبي، فُوجئ الدكتور مصطفى محمود –بعد سنوات- باستبعاد هذا البرنامج الجماهيري من خارطة التليفزيون المصري دون إبداء أي أسباب أو مبررات.
انتهج مصطفى محمود نفس نهج الأديب والمُفكر الكبير عباس محمود العقاد حيث أكدّ أن الإسلام منهج ليس من أسسه الصراع الطبقي على الإطلاق، بل يهدف إلى تحقيق التوازن المطلوب بين الفرد والمجموع، وليس إلى صهر الأفراد داخل المجموع كما في مبدأ الاشتراكية، ولا بالتضحية بالمجموع لصالح قلة من الأفراد كما هو مُتعارف عليه في الفكر الرأسمالي.
وشدد على أن الأيديولوجية الإسلامية تهدف إلى إشباع الحاجات الروحية للإنسان، وليس المادية فقط، فالمسلم حينما يُخرج صدقة أو زكاة فهو يتعامل مع الله مباشرة، لما أخبرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم من أن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد المحروم، وهذا -عند مصطفى محمود- ما يُعطي للمنهج الإسلامي خصوصية وسموًا في الغاية والهدف، إذ يشعر المسلم برقابة من الله ورقابة داخلية نابعة من ضميره الشخصي، وعلى ذلك فالصبغة الروحية للنشاط الاقتصادي شرط من شروط الإسلام، فليس في الإسلام ما هو انفصال بين ما هو روحي وما هو مادي.
معارك فكرية في حياة الدكتور مصطفى محمود
خاض مصطفى محمود في حياته معارك عديدة، ووُجهت إليه اتهامات كثيرة، من بينها:
اتهامه بالإلحاد بالكفر في نهاية الستينيات بعد سلسلة مقالات مثيرة للجدل، بالإضافة إلى صدور كتابه “الله والإنسان” الذي أصدر جمال عبد الناصر قرارًا بمصادرته وسحبه من الأسواق وتقديم مصطفى محمود بعدها للمحاكمة ، بناءً على استشارة رأي الأزهر، الذي أكد على أنها قضية كفر وازدراء أديان، ولكن اكتفى القضاة في المحاكمة بمعاقبته بمصادرة الكتاب دون حيثيات.
انعكست الآية في عهد الرئيس أنور السادات، الذي عبّر له عن مدى إعجابه بالكتاب، وطلب منه طبعه مرة أخرى، ولكنه استبدل به كتاب ”حوار مع صديقي الملحد”، لتتوطد بعدها علاقته بالرئيس السادات وتدوم حتى حادثة اغتياله، وعندما أراد تكليفه لتولي مهام وزارة من الوزارات اعتذر قائلاً: “أنا فشلت في إدارة أصغر مؤسسة وهي زواجي، فأنا مُطلّق لمرتين، وبالتالي أرفض تولي مقاليد السلطة بكل أشكالها”.
ناقش في مقالاته أيضًا أفكارًا كثيرة كانت محط جدالًا بين الكُتّاب والمثقفين، كدعوته إلى علم النفس القرآني، من أجل محاولة فهم النفس فهمًا جديدًا مُرتكزًا على القرآن والسنة. كما تنبأ مصطفى محمود أيضًا بانهيار الحضارة الغربية والرأسمالية وتوابعها دون أن يقوم المسلمون بإطلاق رصاصة واحدة، وذلك بسبب الترف وعبادة الشهوات والغرق في الملذات، مثلها مثل حضارات كثيرة خلدّها لنا التاريخ.
وأخيرًا لدينا القضية المثيرة المشهورة باسم “أزمة كتاب الشفاعة” والتي حدثت عام 2000م لتُسلط مزيدًا من الضوء عليه وعلى أفكاره، وتتلخص فكرة ذلك الكتاب في أن الشفاعة التي سوف يشفع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، لا يمكن أن تكون على الشاكلة التي نؤمن بها نحن المسلمون، ويروِّج لها فقهاء وعلماء الشريعة والسُنة!! إذْ الشفاعة بهذه الصورة تُمثّل دعوة صريحة للتواكل المسموح به شرعًا، وتُشجّع المسلمين على التكاسل مُرتكزين على وهم حصانة الشفاعة، المشروعة لجميع المسلمين لمجرد الانتساب إلى رسول الله عليه الصلاة وأفضل السلام.
صوّر ذلك الكتاب مصطفى محمود كما لو أنه مُنكر لوجود الشفاعة من الأساس! وفجّر ثورة من الغضب في وجهه من جميع الاتجاهات، وكثرت الردود على كتابه، حتى تجاوزت (14) كتابًا ترد عليه ردًا مفحمًا وقاسيًا للغاية.
وحاول مصطفى محمود المحاربة والانتصار لفكره، خاصة أنه لم يكن ينوي على الإطلاق توجيه أي إساءة للدين الذي قضى جُلّ عمره حاملاً راية الدفاع عنه، إلا أن هذه الأزمة مع كِبر عمره وتدهور صحته أدت إلى اعتزاله للحياة الاجتماعية، فامتنع عن الكتابة إلا من مقالات بسيطة في مجلة الشباب، وصحيفة الأخبار.
وبعد رحلة طويلة من التراث الأدبي والعلمي والفكر المثير للجدل الذي قاده في النهاية إلى الإيمان المُطلق النابع عن اقتناع، استطاع مصطفى محمود تحديد هويته أخيرًا، إذ يقول: ”.. ولو سئلت بعد هذا المشوار الطويل من أكون؟! هل أنا الأديب القصاص أو المسرحي أوالفنان أو الطبيب؟ لقلت: كل ما أريده أن أكون مجرد خادم لكلمة لا إله إلا الله، وأن أكون بحياتي وبعلمي دالاً على الخير“.