أصاب الملايين، وحوّل البشر لتماثيل حيّة؛ ما لا تعرفه عن داء النوم المنسيّ بين صفحات التاريخ

حينما نبحث في صفحات تاريخ الحرب العالمية الأولى، سرعان ما سيظهر لنا ذكر وباء أرعب العالم بأسره، وفتك بحياة أكثر من 50 مليون ضحية حول العالم -أكثر من عدد ضحايا الحرب ذاتها-؛ وهو وباء الإنفلونزا الإسبانية.

لكن عند التمحيص جيداً في خفايا تاريخ تلك الفترة سنجد داءً آخر مرعباً انتشر في ذات المجال الزمني، ألا وهو داء النوم، أو التهاب الدماغ الخمولي، والذي يقدّر أنّه أصاب خلال فترة انتشاره (1917-1925) قرابة 6 ملايين إنسان، وذهب بحياة 1.6 مليون منهم، فما هو داء النوم، وما هي أعراضه، وما العامل الممرض الذي يقف خلفه؟ هذا ما سنعرفه في مقالنا لليوم.

الحالة الأولى

وصف طبيب الأعصاب النمساوي؛ (كوستانتين فون إيكونومو) ما يعتقد أنّه الحالة الأولى المسجّلة لـ داء النوم، حيث تمّ تحويل مريض إليه عجز باقي الأطباء عن وضع تشخيص محدد لحالته، إذ تباينت تشاخيص الأطباء بين التهاب السحايا والتصلب المتعدد، لكنّ المريض لم يكن يعاني أيّا من المرضين السابقين وفقاً لتقييم الدكتور (إيكونومو)، فالأعراض التي تظهر عليه لا تتوافق مع الأمراض السابقة.

كان المريض يعاني من الخمول بشكل كبير، كما أنّه كان غير قادراً على الحركة بالمطلق، وغير متفاعل مع محيطه، ما جعله أشبه بتمثال حيّ. تزايدت الإصابات لاحقاً وبدأت الوفيات تظهر، الأمر الذي دفع الطبيب النمساوي للجوء إلى التشريح الشرعي لجثث، والذي عثر فيه على التهاب في منطقة المادة السوداء من جذع الدماغ، ليطلق على المرض لاحقاً اسم “Encephalitis Lethargica”، والذي يترجم إلى “التهاب الدماغ الخمولي”، أو داء النوم كما أطلق عليه لاحقاً.

أعراض مريبة، وسير غير متوقّع للمرض

أخذ المرض ينتشر في عموم القارة الأوروبية، ومنها إلى باقي العالم، فمع حلول العام 1919، كان المرض قد وصل للولايات المتحدة ومناطق أخرى متفرقة.

كان المرضى يعانون من طيف واسع من الأعراض المتباينة فيما بينها، حيث تبدأ في معظم الأحيان بأعراض عامّة أهمّها الحمى الخفيفة، الصداع، تشوش الرؤية، الوهن في القسم العلوي من الجسد، والآلام عضلية لتنتقل بعد ذلك إلى الأعراض العصبية كبطء التفكير والحركة، الرؤية المزوجة للأجسام، فقدان الاهتمام بالحياة، العته، وأخيراً الشلل التام.

لم تسر الأعراض دائماً وفق الخطّ السابق، بل كانت الأعراض العصبية النهائية في بعض الأحيان النادرة تضرب بشكل مفاجئ، إذ يتوقف المريض عن الحراك بشكل كامل، ويتحول إلى تمثال حيّ لا يملك القدرة على الحديث أو التواصل حتى.

بلغ عدد المصابين بـ داء النوم قرابة 6 ملايين إنسان حول العالم، توفّي منهم 1.6 مليون شخص بالتأثير المباشر للمرض.

كان أكثر ما يثير الرعب بخصوص داء النوم هو الآتي: عند استيقاظ معظم المرضى من سباتهم، أكّدوا أنّهم لم يدركوا أنهم كانوا مرضى بالأساس، بل لم يكونوا يتذكرون شيئاً من فترة جمودهم، بينما كان هناك آخرون يشعرون بكل ما يجري حولهم، ويحسون بالعجز المطلق لانعدام قدرتهم على الحركة، في حالة أشبه ما يكون بحالة الجاثوم، ولكن لأيام وشهور وحتى سنوات بدل أن يكون دقائق معدودة.

آمال العلاج، والبحث عن تفسيرات

بعد انقضاء ما يزيد على 40 عاماً على انتهاء جائحة داء النوم، وفي نهاية الستينيات من القرن الماضي بالتحديد، نجح طبيب الأعصاب (أوليفر ساكس) بالوصول إلى خرق فيما يخصّ المرض، ألا وهو استخدام محضر (L-Dopa)؛ والمستعمل عادة في علاج أعراض داء باركنسون، في إعادة عدد من المرضى “المجمّدين” إلى وعيهم بعد مرور عقود على إصابتهم.

لكنّ الفرحة لم تكتمل، فسرعان ما أخذت الأعراض الجانبية الناتجة عن استخدام تراكيز كبيرة من مستحضر (L-Dopa) بالظهور، والمتمثلة بـ (الهلوسات والسلوك العدواني)، لينتهي الأمر بعدد كبير ممن أفاقوا من جمودهم بالعودة إليه بعد وقت محدود.

لا يزال العالم غير متأكّد بالمطلق من السبب الذي يقف خلف داء النوم، ولكنّ أكثر الآراء شعبية في أوساط العلماء تشير إلى أنّ الاستجابة المفرطة للجهاز المناعيّ تجاه نوع من الباكتيريا مشابه لباكتيريا الـ (streptococcus) هي ما يتسبب في الإضرار بجزء من جذع الدماغ يدعى بالمادة السوداء، ويؤدّي إلى الأعراض العصبية التي تترافق مع المرض شيئاً فشيئاً، وتصل في المرحلة النهائية إلى الجمود.

يذكر أنّ المرض قد عاد مرّة أخرى عام 1993، حينما تمّ تسجيل حالة جديدة لامرأة أمريكية أصيبت بداء النوم، تلتها أكثر من 20 حالة جمعتها ووثقتها جامعة أوكسفورد في سجلاتها.

Exit mobile version