إذا سألت أيّاً من المؤرخين عن العام الأسوأ في تاريخ البشرية، فسيخطر في باله بكل تأكيد عام 1349 الذي بدأ فيه الطاعون الأسود الذي ذهب بحياة أكثر من ثلث سكان أوروبا، وعام 1918 الذي شهد على انتهاء الحرب العالمية الأولى؛ أحد أكثر الحروب دموية في التاريخ البشري، وشهد أيضاً بداية جائحة الإنفلونزا الإسبانية التي راح ضحيتها ما بين 50 إلى 100 مليون ضحية معظمهم من البالغين الشباب، لكن الجواب النهائي لهم سيكون حتماً عام 536، والعقد الذي تلاه، والذي حوى من المآسي ما جعل مؤرّخيه يبدون كمؤلّفي قصص الخيال العلمي لمن يقرأ كتبهم في أيامنا هذه، حتى استطاع العلماء تفسير كل الظواهر المذهلة التي حدثت حينها في الأعوام الأخيرة، فما قصة هذا العام المشؤوم؟
أهوال العام 536:
مع حلول عام 536، غطّى ضباب غامض قارة أوروبا، منطقة الشرق الأوسط، وأجزاءً واسعة من قارة آسيا، وحمل معه الظلام إلى العالم ليلاً نهاراً، واستمرّ ذلك الحال لمدة زادت على 18 شهراً، “أعطت الشمس ضوءها من غير بريق كما هو حال القمر على طوال كامل العام” حسب وصف المؤرّخ البيزنطي الشهير بروكوبيوس لعام 536.
انخفضت درجات الحرارة في هذا العام خلال الصيف بمقدار 1.5 إلى 2.5 درجة مئوية، تساقطت الثلوج في الصين في ذلك العام صيفاً، وكان الشتاء في العقد الذي تلا هذا العام الأبرد خلال 2300 عاماً سبقته، حيث سجّل المؤرخون الإيرلنديون فشل المحاصيل في الأعوام 536-539، ما أدى لحدوث مجاعات جماعية أصابت معظم أنحاء العالم.
ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فقد شهدت الأعوام التي تلت ذلك العام انتشار الطاعون في الإمبراطورية الرومانية الشرقية، بدءاً من موانئها في مصر عام 541، حيث كانت هذه الموجة واحدة من الأكبر في التاريخ، ودعيت بطاعون جاستنيان، تسبب هذا الطاعون بوفاة ثلث إلى نصف سكان الإمبراطورية البيزنطية في ذلك الحين، ما أدّى إلى إضعافها في السنوات التالية وكاد أن يتسبب في سقوطها.
جلبت كل هذه الكوارث معها الركود الاقتصادي بكل تأكيد، حيث بقي الاقتصاد العالمي المعتمد حينها على الذهب في تعاملاته في دوامة من الانهيار والتراجع لم يستطع الإفاقة منها إلا بعد قرابة القرن في حدود العام 640 مترافقاً مع صعود الفضّة.
كيف استطاع العلماء تفسير هذه الظاهرة الغريبة؟
استغرق التحقق من سبب هذه الحوادث الغريبة من العلماء العديد من السنوات، لكنّ الجليد دلّهم في النهاية على حلّ هذا اللغز، حيث قاموا بأخذ عينات من الجليد في كل من آيسلندا وغرينلاند وجبال الألب الأوروبية يعود عمر كلّ منها إلى تاريخ السنة المشؤومة، وجدوا في كلّ منها عناصر الكبريت والبزموت التي تخرج عادة في ثورات البراكين، كما وجدوا جزيئات صخرية مطابقة للتي توجد بشكل طبيعي في آيسلندا في كل من غرينلاند والألب، ما دفعهم للوصول إلى حل اللغز الغامض.
لقد كان سبب الضباب الذي أحاط بالأرض هو ثوران ضخم لأحد البراكين في آيسلندا حملت الرياح ركامه إلى أنحاء أوروبا والشرق الأوسط والصين، الأمر الذي سبب حجب الشمس عنهم، وانخفاض الحرارة بالمجمل، وموت المحاصيل، وبالتالي المجاعة.
المذهل في الأمر أنّهم وجدوا في العينات الجليدية التي تعود للعام 640 تقريباً ارتفاعاً كبيراً في تركيز الرصاص، والسبب في ذلك، اكتشاف الناس في ذلك الوقت لآلية استخراج الفضة من خامات الرصاص، الأمر الذي جلب معه انتعاشاً اقتصادياً للعالم في ما يعرف بصعود الفضة.