إذا تساءلت عن أفضل الأفلام التي تتعرض لبعض القضايا والمواضيع الشائكة في المجتمع، فسيكون فيلم Parasite إحداها. إنه الفيلم الكوري الجنوبي من إخراج وتأليف العبقري “بونج جون هو”، والحاصل على 197 جائزة أهمها جائزة BAFTA لأفضل فيلم بلغة غير إنجليزية وعدة جوئز من Academy Awards، ويعتبره الكثير من النقاد أحد أعظم الأفلام لعام 2019، بل والقرن الحادي والعشرين بأكمله. فكيف استطاع “جون هو” أن يلفت أنظار العالم تجاه الفيلم؟ هذا ما سنوضحه في هذه المقالة.
أراد “جون هو” أن يستعرض عبقريته كمخرج من اللحظة الأولى بمشهد مدته 35 ثانية تقريباً، حيث تظهر نافذة منزل بسيط بمستوى الشارع كإشارة لمستوى الأسرة، والعبقرية هنا تكمن في التوظيف الأمثل الكاميرا بتثبيتها بزاوية مستقيمة أمام النافذة مباشرةً بدلاً من تثبيتها بالأعلى لتجنب الإساءة إلى الطبقة الفقيرة التي تمثلها الأسرة.
قصة فيلم Parasite تتمحور حول اسمه!
بدايةً لماذا تم اختيار اسم Parasite كعنوان للفيلم؟ كلمة Parasite بالإنجليزية معناها الطفيلي، وهو الكائن الحي الذي يتطفل على آخر، أي يقوم باستغلاله لكي يعيش، وذلك عن طريق استخدام جسمه كمُضيف تماماً مثل الدودة الشريطية في جسم الإنسان.
تدور قصة الفيلم حول عائلة “كيم” الفقيرة التي تعيش في منزل بسيط والمُكونة من والدين وابن وابنة، وفي أحد الأيام يحالف الحظ الابن ويوافق على عرض صديق له لتدريس اللغة الإنجليزية لفتاة من عائلة “بارك” الغنية ورفيعة المستوى، ومن ثم يجلب باقي أفراد أسرته للعمل بمنزل عائلة “بارك”، عبر التخطيط لطرد السائق باتهامه بممارسة الرذيلة في السيارة، وخادمة المنزل باتهامها بأنها مُصابة بالسل، وذلك لتوظيف والديه مكانهما. هنا تتحسن معيشة أسرة “كيم” مما يعني أنها تستغل الأسرة الغنية الساذجة في علاقة هي الأشبه باستغلال الكائن الطُفيلي لجسم مُضيفه.
بعيداً عن القصة، يجسد الفيلم فكرة التطفل بشكل صارخ في مشهد انقطاع شبكة الوايفاي عن هواتف عائلة “كيم” لأن جارتهم بالطابق العلوي قامت بتغيير كلمة المرور لأنها اكتشفت بأنهم يسرقون الإنترنت منها، فما كان من الأب سوى إخبار ابنه بوضع الهاتف بالقرب من سقف منزلهم لالتقاط شبكة وايفاي أخرى واستغلال جار آخر!
تمثيل الفوارق الاجتماعية الهائلة بين الطبقة الرأسمالية المُرفهة والطبقة الفقيرة الكادحة:
يتعرض الفيلم لظاهرة اجتماعية موجودة في العالم بأسره وخصوصاً بالدول ذات النظام الرأسمالي مثل كوريا الجنوبية، المجتمع في هذه الظاهرة مُكون من طبقتين أساسيتين؛ طبقة أصحاب رؤوس الأموال المُرفهة (عائلة بارك) والطبقة الكادحة الفقيرة (عائلة كيم) بسبب عدم التوزيع العادل للثروة وتفاوت الدخل.
إذا ركزت في الفيلم ستجد إسقاطاً للفرق المهول بين الطبقتين السابق ذكرهما، فبينما تعيش عائلة “بارك” في قصر فخم بأعلى التل يطل على المدينة، تعيش عائلة “كيم” في غرفة بائسة تحت الأرض بالكاد تطل على الشارع. كذلك فإن صعود أفراد عائلة “كيم” على السلالم في طريقهم إلى منزل عائلة “بارك” ونزولهم من عليها في طريق عودتهم إلى منزلهم يشير إلى الفوارق الاجتماعية الكبيرة بين الطبقتين.
يجسد الفيلم رغبة الطبقة الرأسمالية في وضع حدود معنوية تفصلهم عن الطبقة الكادحة وجعل العلاقة بينهما محصورة على الخدمة لقاء أجر، وهذا اتضح من خلال عرض هوس السيد “بارك” بعدم تجاوز تابعيه لحدودهم، فقد قام بطرد سائق السيارة عندما اشتبه في ممارسة الأخير للرذيلة على المقاعد الخلفية للسيارة لأنه فقط قام بذلك في مكان جلوس السيد “بارك”! وأخبر زوجته باطمئنانه من السائق الجديد -وهو السيد “كاي”- لأنه يمنع نفسه من تجاوز حدوده عندما يقترب من ذلك.
ليس هذا فحسب، بل أن الرائحة لعبت دوراً أساسياً في تجسيد فكرة أن المجتمعات الكادحة يمكن تمييزها بسهولة، فقد اكتشف الطفل الصغير بعائلة “بارك” تشابه الرائحة بين أفراد عائلة “كيم” رغم أنهم تظاهروا بأنهم ليسوا من أسرة واحدة، وقرروا بعدها استخدام مسحوق غسيل مختلف، ثم اكتشفوا أن الحل الوحيد للتخلص من الرائحة هو الانتقال لمنزل آخر. أيضاً حديث السيد “بارك” مع زوجته عن سوء رائحة السائق واستيائها عندما ركبت السيارة بعدها كانا تجسيداً واضحاً للفكرة.
قد تكون نعمة أحدهم نقمة لغيره! نعم، لم أجد وصفاً أفضل من هذا للمشهد الذي كان يستمتع فيه الزوجان “بارك” بسقوط المطر جالسين على أريكة فخمة خلف الواجهة الزجاجية العملاقة لقصرهم الفاره وكأنه فيديو بدقة 16K على شاشة تلفاز عملاقة بحجم 400 بوصة -إن وصل إليها البشر أصلاً-، بينما يتسبب نفس المطر في إغراق الحي الذي يوجد فيه منزل عائلة “كيم” بأكمله وكأنهم في وسط الشلالات. هل وصلك ما أعنيه إذاً؟!
أما الدقائق الأخيرة من الفيلم، فكانت إسقاطاً على رغبة الطبقة الكادحة في القضاء على التفرقة والعنصرية بينها وبين الطبقة الرأسمالية، وهذا تجلى في مشهد رائع عندما قام السيد “بارك” بسد أنفه وهو يحصل على المفاتيح المُلقاة على الأرض أسفل جثة الرجل الذي قتل ابنة السيد “كيم” -رغم أن الموقف لا يتحمل- فكانت الشرارة التي أشعلت السيد “كيم” ودفعته لقتل السيد “بارك”، وهذا إسقاط عظيم على مظاهر السخط الاجتماعي تجاه الطبقية العمياء رغم أن البعض قد لا يفهم المغزى من المشهد.
أفضل خطة هي ألا توجد خطة!
تحمل قصة الفيلم مبدأ مهم يجب أن يعلمه أي شخص، ألا وهو أنه لا توجد خطة في الحياة تتم بشكل كامل مثلما خُطط لها، وذلك لأن الإنسان قصير النظر ولا يستطيع أن يخطط إلا وفق ما هو مُتاح له من معطيات، فالظروف تتغير والخطط تصطدم بالواقع الجديد فتفشل. عائلة “كيم” صنعت خطة متكاملة خدعت بها عائلة “بارك” ولكنها فشلت وكُشف أمرها لسلسلة من الأحداث غير المُتوقعة. ليس معنى هذا القول ألا تخطط مطلقاً، بل ضع في اعتبارك أن الفشل أمر وارد ولا علاقة له بقصور التخطيط.
إسقاطات سياسية وتأثر بالأيدولوجية الغربية:
لفتت أنظاري بعض الإسقاطات السياسية وإبراز تأثر كوريا الجنوبية بالأيدولوجية الغربية وثقتها في الولايات المتحدة. من أخطر الإسقاطات التي تناولها الفيلم هي المشكلة الكورية، فقد سخرت عائلة “كيم” من زعيم كوريا الشمالية والإعلام المضلل الذي يعظم هذا المجنون المفتون بالصواريخ النووية وتهديده المستمر لكوريا الجنوبية، وفي مشهد تشاجر عائلة “كيم” مع الخادمة السابقة وزوجها -رغم أن العائلتين بينهما قواسم مشتركة- إسقاط على خلافات الكوريتين رغم تجانس شعبيهما. القبو السري أسفل قصر عائلة “بارك” يمثل المخابئ السرية التي ينشئها الأغنياء تحسباً لوقوع هجوم نووي.
الأيدولوجية الغربية كان لها أثراً واضحاً، فإلى جانب الموسيقى الغربية بمعظم مشاهد الفيلم، عرض الفيلم مدى اهتمام الكوريين الجنوبيين باللغة الإنجليزية والإعلاء من شأن معلميها، وظهرت صور لبعض الشخصيات المؤثرة في الغرب مثل “إبراهام لينكولن” و “نلسون ماندلا”. كذلك أبرز الفيلم ثقة كوريا الجنوبية في الولايات المتحدة عندما تحدثت السيدة “بارك” عن استيراد أسهم وخيمة الهنود الحمر من الولايات المتحدة كدلالة على متانة المنتج الأمريكي وجودته العالية.
فيلم Parasite تحفة فنية بكل المقاييس، وينم عن عبقرية المخرج والمؤلف والمنتج “بونج جون هو”. الفيلم يزخر بالإسقاطات وصور التجسيم العظيمة، كما أن السرد والإخراج رائعين. لا عجب أن الفيلم حقق نجاحاً ساحقاً ونال إعجاب الجماهير والنقاد وحصل على جوائز عالمية كبرى. سيظل Parasite أحد أفضل الأفلام الاجتماعية في التاريخ لسنوات إن لم يكن لعقود!
ترشيح لفيلم آخر: