حين ذكر الأحداث التاريخية الغريبة التي رافقت الحربين العالميتين الأولى والثانية، تأتي هدنة عيد الميلاد في المرتبة الأولى بلا شك، إذ توقّفت الحرب العالمية الأولى في عزّ اشتعالها في ليلة عيد الميلاد (الكريسماس) عام 1914، قبل أن تعود مرّة أخرى بزخم شديد لأربع سنوات تالية، حاصدة معها أرواح ما يربو على 20 مليون ضحية، فما هي هدنة عيد الميلاد الغريبة، وما هي الأحداث التي سبقتها والتي جعلت من حلم تحقيقها واقعاً؟ هذا ما سنعرفه في مقالنا اليوم، فلنباشر:
الحرب العظمى:
بالعودة حوالي خمسة أشهر قبل موعد قصّتنا، كانت الحرب العالمية الأولى قد اشتعلت بين القوى الأوروبية العظمى آنذاك (كيف أشعل خطأ السائق الحرب العالمية الأولى) حيث اصطفّت ألمانيا إلى جانب حليفتها الإمبراطورية النمساوية المجرية، ومعهما كلّ من إيطاليا والإمبراطورية العثمانية، أمّا على الجانب الآخر فقد وقفت فرنسا وبريطانيا بجانب كلّ من روسيا القيصيرية وصربيا، ثمّ انضمّت لهم الولايات الأمريكية المتحدة في شهور الحرب الأخيرة. في بدايات الحرب اعتزمت الإمبراطورية الألمانية الزحف باتجاه جارتها الفرنسية، حيث تصدّى الفرنسيون لهم بشراسة في مواجهة طويلة مباشرة، الأمر الذي حول الجبهة الغربية للحرب الواقعة بين فرنسا وألمانيا إلى شريطين ممتدّين من الخنادق، في الشرق الشريط الألماني، وفي الغرب الشريط الفرنسي، ويفصل بينهما ساحة مفتوحة لا يجرؤ أحد على المرور فيها كونها في مرمى النيران المباشر للطرف الآخر، ما جعل التقدّم في الحرب شبه متوقف، ومظاهر القتال مقتصرة على القصف المتبادل، والطين والجثث المتعفنة في الخنادق والساحات المفتوحة.
دعوة للهدنة:
في السابع من ديسمبر من عام 1914 أطلق البابا بينديكت الخامس عشر دعوة للهدنة بمناسبة عيد الميلاد، لكنّ دعوته قوبلت بالرفض من الدول المنخرطة في الحرب بشكل قاطع، لكن يبدو أنّ الجنود في ساحات المعارك كان لهم رأي مختلف عن رأي القادة. في بداية عشية ليلة الميلاد هدأت أصوات البنادق والمدافع في مناطق واسعة من الجبهة الألمانية الفرنسية –مع استمرارها في مناطق أخرى-، ثم ما لبثت أصوات ترانيم عيد الميلاد تتعالى من كل من خنادق الألمان والإنكليز(المتحالفين مع الفرنسيين)، حتى أنّ بعض الروايات تؤكّد سماع فرق نحاسية تعزف وتشارك في الاحتفال مع أغاني العيد في الخنادق الألمانية. مع بزوغ فجر يوم العيد بدأ بعض الجنود الألمان في عدد من الجبهات بالخروج من خنادقهم والمشي في الأرض الفاصلة بين خندقي المعسكرين المتحاربين، مردّدين عبارات التهاني بالعيد بلغة أعدائهم الإنكليزية “Merry Christmas”، الأمر الذي أثار خوف الجنود الإنكليز في البداية، قبل أن ينتبهوا إلى أنّ الجنود الألمان لا يحملون أسلحة معهم، الأمر الذي دفعهم للخروج ومبادلتهم عبارات التهنئة بالعيد، وتبادل السجائر. تؤكّد بعض المصادر التاريخية أن الأمور وصلت في منطقة من الجبهة إلى درجة إقامة مباراة كرة قدم ودية بين المعسكرين!
استغلّ بعض الجنود الهدنة لغرض كئيب ولكن ضروري، حيث قاموا بسحب جثث رفاقهم العالقة بين الخندقين، والتي لولا حصول هذه الهدنة لبقيت لأشهر في مكانها دون إمكانية لسحبها.
انتهت الهدنة بشكل عفوي كما بدأت، ولم تتكرر من بعدها هدنة بهذا الشكل، نتيجة تغير أشكال الحروب من حروب الجبهات المباشرة والخنادق إلى تكتيكات أكثر تعقيداً، كما أنّ فرض العقوبات التأديبية الرادعة من قبل القادة جعلت مخالفة القوانين بهذا الشكل بعدها أمراً أقرب إلى الخيال.