من منّا لا يعرف القسطنطينية؛ مدينة السحر والجمال والرومانسية الإيطالية، المدينة العائمة على البحر، وإحدى المدن التي انطلقت منها النهضة الأوروبية في نهاية العصور الوسطى. لطالما عرف عن المدينة الإيطالية، التي كانت قبل توحد إيطاليا مملكة مستقلة تملك من القوة والنفوذ قدراً كبيراً، كونها حاضرة للتجارة في البحر المتوسط، وصلة وصل بين مدن أوروبا ومدن الشرق الأوسط، حيث ذاع صيت تجارها في عموم المنطقة. في حال زيارتك للمدينة يوماً من الأيام، ستجد في أحد أكبر ميادينها؛ ميدان سان مارك، 4 أحنصة برونزية شامخة على شرفة كاتدرائية البندقية، خلف هذه الأحنصة الأربعة تكمن واحدة من أعنف قصص الانتقام التي عرفها التاريخ؛ قصة التاجر البندقي إنريكو داندولو وانتقامه المرير من مدينة القسطنطينية، فلنتابع أحداث هذه القصة.
التاجر البندقي:
شهدت التجارة بين البندقية والإمبراطورية البيزنطية خلال القرن الثاني عشر الميلادي ازدهارا كبيراً، دفع بالعديد من تجار البندقية للورود إلى القسطنطينية عاصمة البيزنطيين حينها، خصوصاً مع تقديم الإمبراطور البيزنطي الكثير من التسهيلات للتجار البندقيين في ذلك الحين، إلّا أنّ ذلك الودّ لم يدم طويلاً حينما شعر البيزنطيون أن التجار البندقيين يحصلون على مرابح هائلة من هذه التجارة، ما أثار حفيظة الإمبراطور بشكل كبير، حيث أمر بسجن عدد من التجار البندقيين، وكان من بينهم التاجر إنريكو داندولو. تعرّض إنريكو أثناء فترة سجنه للتعذيب وفقد بصره، يرجع بعض المؤرّخين ذلك لضربة تلقّاها على رأسه، بينما يعتقد آخرون أنّ أعينه تم فقؤها بالزجاج المحمّى.
الرغبة بالانتقام:
تركت هذه الحادثة أثراً نفسيا كبيراً لدى التاجر البندقي، حتى بعد عودته إلى مدينته، وتنامت لديه دوافع الرغبة بالانتقام على الرغم من شدة عجزه في ذلك الحين. مع مرور الأيام تمّ اختيار إنريكو ليكون دوقاً لدوقية فينسيا في التسعين من عمره، لم يمنعه عمره المتقدم أو إصابته بالعمى من تركيز على الأمر الذي شغل باله لأكثر من عشرين عاماً، ألا وهو الانتقام من المدينة التي سرقت منه بصره.
انضمّ إنريكو ومعه دوقية البندقية إلى الحملة الصليبية الرابعة، بعد أن اشترط على قادتها أن يتمّ منحه السلطة على الأراضي التي سيقوم بغزوها، وكانت أول مدينة في باله هي مدينة القسطنطينية، التي وعلى الرغم من كونها مدينة بيزنطية في ذلك الحين، وكون الأمر جدلياً بالنسبة لأهداف الحملة الصليبية إلا أن باقي القوى الأوروبية دعمته في مسعاه في ذلك الحين، حيث قام بإخضاع المدينة لسيطرته، بعد أن قام جنود الحملة بقتل عدد كبير من سكان المدينة، ونهبها عن بكرة أبيها، وتدمير أجزاء واسعة منها، ولم يكتفِ بذلك فحسب، بل قام بسرقة تماثيل الأحصنة البرونزية الأربعة التي كانت رمزاً من رموز المدينة البيزنطية ونقلها إلى مدينته البندقية وعرضها للعامة في ميدان سان مارك وسط المدينة من شرفة الكاتدرائية التي سمّي الميدان على اسمها. يعود تاريخ صناعة هذه الأحصنة إلى القرن الثاني الميلادي، وهي 4 أحصنة منحوتة من البرونز. مع العلم أنّ الأحصنة المعروضة على شرفة الكاتدرائية هي نسخة مقلدة عن الأصل، بينما الأحصنة الأصلية فيتم الحفاظ عليها من عوامل التآكل داخل جدران الكاتدرائية، وهي معروضة للعامة في جميع الأوقات. يذكر أنّ نابليون إبّان حملته على أوروبا قام بسرقة هذه الأحصان هو الآخر قبل أن تعود ملكيتها للبندقية مرّة أخرى.