تزخر السينما بالأشرار الذين أصبحوا رموزا وأيقونات تذكر باستمرار، إما بسبب دهائها أو كاريزمتها أو وحشيتها، ومع ذلك، قليلة هي الأفلام التي تنجح في تقديم شخصية شريرة بوصف دقيق ومتعمد وفريد لدرجة الإبداع والعبقرية. وقد كان أنطون شيغور في فيلم No Country for Old Men من إخراج الأخوين كوين من بين هذه الشخصيات الأيقيونية في الشر. دعونا إذن نتعمق في تفاصيل وأوصاف والاختيارات التي جعلت الرجل السيكوباثي انطون شيغور أحد أكثر الأشرار شهرة في السينما وأكثرهم تميزا.
حول الفيلم
أحرز فيلم “لا بلد للعجائز No country for old men” للأخوين “كوين Coen” عام 2007 , المراتب الأولى في القوائم السينمائية الخاصة بأفضل أفلام العام , ليحصد فيما بعد أربع أوسكارات رئيسية من الأكاديمية الأميركية للسينما , من بينها جوائز أفضل فيلم و أفضل إخراج و أفضل ممثل في دور مساند للنجم الإسباني Javier Bardem , دون أن ننسى نجاحه الباهر في شباك التذاكر بإجمالي إيرادات يفوق 171 مليون دولار حول العالم .
تدور أحداث الفيلم في الغرب الأمريكي القاحل خلال بداية ثمانينيات القرن الماضي، ويحكي عن مطاردة ثلاثية وحشية ودامية، يتجول في صحراء تكساس الممتدة إلى ما لا نهاية، يجد Llewellyn Moss ( Josh Brolin ) نفسه أمام عملية تهريب مخدرات فاشلة من المكسيك إلى الأراضي الأميركية , والتي تبين أنها انتهت بكثير من الجثث و الدماء و حقيبة تحتوي على مليوني دولار . وعوض إبلاغ الشرطة يسعد الصائد موس بالغنيمة ويقرر أخذها، فيهرب بالنقود مترقبا من أي خطر محدق. لكن القادم أفظع، حيث يتعرض للمطاردة من قبل مجرم يدعى انطون شيغور ، لكن شيغور ليس بمجرم عادي سعى وراء المال، لكنه قاتل مضطرب نفسي وسيكوباثي، يكاد يخلو قلبه من الرحمة، يسفك الدماء بدم بارد، ويخلو وجهه من الملامح والتعابير، يظهر أنتون شيغور بمظهره الهادئ لدرجة الرعب، ومشيته المطمئنة حاملا سلاحه الغريب ( أنبوب من الهواء المضغوط )، ليقتل كل من يصادفه بصمت وببشاعة، متفوقا ً على الشرطي العجوز المحبط Ed Tom Bell ( يجسده النجم الكبير Tommy Lee Jones ) الذي يطارد الجميع دون رغبة حقيقية , مستسلما ً لشعور العجز، وهو يتابع العنف المتزايد في الغرب الأميركي الذي خدمه بإخلاص كضابط شرطة طوال حياته .
من هو انطون شيغور ؟
إن إحدى علامات جنون شخصية ما وتألقها سينمائيا هي المقدمة المثيرة للاهتمام، ونذكر هنا كل من الجوكر وهانيبال ليكتر…بيد أن مقدمة انطون شيغور تكاد تحبس الأنفاس من شدة سوداويتها ووحشيتها، فهي بمثابة توصيف دقيق لما يعنيه الشر العنيف الخالي من الرحمة الممزوجة بالسيكوباثية القاتلة.
لقد قدم النجم الإسباني “خافيير باردم Javier Bardem” أفضل أدواره على الإطلاق في تجسيده المذهل لشخصية انطون شيغور Anton Chigurh , بتحكم كامل في أدق التفاصيل و الحركات، و باتحاد كامل بالشخصية إلى حد يثير الأعصاب و يوتر الأجواء ويجعلك على أتم الاستعداد لتلقية صدمة ما، ابتسامته الصفراء توحي أنه مجنون بقوته و أنه يدري حقا ً مدى جنونه , بينما تلعب نظراته المستهترة بالعالم قاطبة دورا ً رئيسيا ً في تحريك مشاعر متناقضة ومتضاربة لدى الجمهور , حتى تحير مع نفسك في ما إذا كنت تكرهه أم تعجب به , و تأتي التفاصيل الصغيرة في شخصيته لتقربه من الحقيقة قليلا ً و تنقله من عالم الورق إلى عالم اللحم و الدم , فهو يشمئز من منظر الدماء و يحرص على ألا تتلطخ أحذيته بها , و رغم ذلك لا يمكن تصنيفه ضمن الكائنات البشرية , فهو شر مطلق يجوب الأرض دون رادع يوقفه، لا تعني له القوانين شيئا ً و لا يؤمن إلا بمبادئه الخاصة .
سيكوباثي المظهر
إن القلق الذي يساورنا حول شخصية أنطون يعود جزء كبير منه إلى مظهره الغريب، بدءا من الصيغة التي يظهر بها مرورا عند ملامحه الجامدة وصولا عند الأسلحة التي يختار استخدامها.
ولقد أصبحت قصة شعر انطون شيغور وخزانة الملابس والأسلحة جميعها أيقونات سينمائية منذ إصدار الفيلم، وعلى الرغم من أن هذه التفاصيل قد تبدو ثانوية بالنسبة لمضمون شخصية شيغور ، إلا أنها تعد جزء مهما من تصميم الشخصية، بوصفها ذات معنى عميق ومغزى أعمق إزاء توظيفها في المشاهد.
يبلغ ارتفاع شيغور 1.83 مترًا ويتمتع بهيكل قوي البناء ، لكن ملامح جسمه النحيلة شبيهة بتلك التي تمتلكها الحيوانات البرية مثل الفهد، تجعله يبدو مفترسًا. كما أن امتلاك شيغور لملامح وجه قوية ومحفورة: أنف عريض وحواجب كثيفة وعظام وجنتين بارزة وذقن محدد جيدًا، يعطي انطباعا مباشرا بكونه رجل شرس يفتقر للمشاعر والإحساس بالآخرين.
يمتلك كذلك انطون شيغور حضور مهيب ولكنه غريب ومثير للقلق، والاسم وحده ، الذي تم اختياره من قبل مكارثي يعتبر غير متناسق بشكل غامض ، حيث يجمع بين الاسم الأوروبي “انطون” مع اسم جديد غير غربي “شيغور”. كما يتمتع القاتل الضخم بلهجة لا توصف ، مع صوت عميق أجش ، وقصة شعر غريبة توحي بفرادة شخصيته.
مجرد مريض نفسي أم عبقري معادي للمجتمع؟
إن شيغور هو شخصية أيقونية يتم تحديد ملامحها إلى حد ما، من خلال علاقته بالأشياء التي يستخدمها أو يحملها معه. ومما لا شك فيه أن هناك جمالية في الطريقة التي يقتل بها شيغور، فحمله لسلاحه الغريب الذي هو عبارة عن خزان أكسجين بخرطوم، نجد أنه في الحقيقة عبارة عن بندقية ماشية تستخدم لقطع رأس الماشية. لذا بالنسبة إلى شيغور ، هذه هي الطريقة الأكثر إنسانية لإنهاء حياة شخص ما، بطريقة نظيفة وسلسلة، فهو دقيق في محاولة عدم تلويث يده أو ملامسته للدم.
بالإضافة إلى ذلك ، يحمل شيغور بندقية مع كاتم للصوت ومسدس يتبع كلاهما نفس المبدأ المتمثل في قتل نظيف دون الإزعاج الذي تسببه الأصوات العالية. فضلا عن كونه يحمل دائما في جيبه القطع النقدية، بحيث يستخدمها في تحديد مصير الأشخاص أمامه، إنه غير متأكد مما إذا كان ينبغي قتلهم أم أنهم ما زالوا يستحقون العيش. إنه الشخص الذي ينفذ القاعدة ولكنه ليس الشخص الذي يضعها، إنه يؤمن بقوى أعلى، قوى القدر، التي تقرر سواء أحب الضحايا ذلك أم لا.
لم يكن من الضروري أن تكون أفكار انطون شيغور القاتلة ناتجة عن دوافع معادية للمجتمع، فقد يكون السبب هو عدم تحكمه بأفعاله، ولكن مع ذلك ، نجح في إقناع المشاهد بالاعتقاد بأن القاتل محرك من قبل قوى الشر والخبث. والدليل على ذلك هو حواره المرعب مع مالك محطة الوقود، إلى جانب الابتسامة السادية التي ترافق عمليات القتل التي يرتكبها بدم بارد. إن ابتسامات شيغور السادية هي علامة واضحة على معاداة المجتمع بشكل أساسي. إنها تمنح المشاهد نظرة خاطفة عابرة على عقلية القاتل ، ولمحة عما يحفزه حقًا.