الموت الأسود: الوباء الأكثر فتكًا في تاريخ البشرية!

بعد أن عشنا عامين من الأسوأ في تاريخنا المعاصر بانتشار وباء COVID-19، بدأ الآن المرض في الإنحدار، وحياة البشرية بدأت تعود لطبيعتها مرةً أخرى بعد أن قضى الفيروس على أكثر من 6 مليون شخص حول العالم. على الرغم من اعتقادك أن الرقم كبير، إلا أنه يعتبر من أبسط الأمراض التي مرت على البشر في تاريخهم!

اليوم أود التحدث معكم عن وباء فتاك بالمعنى الحرفي. وباء قضى على نصف البشرية وقت انتشاره، وحول مدن عظيمة إلى مدن أشباح فارغة. اليوم سنتحدث بالتفصيل عن الموت الأسود (The Black Death)، وكيف غير من مجرى التاريخ في العصور الوسطى.

نشأة وباء “الموت الأسود”

أصل نشأة الوباء غير مُحدد بنسبة 100% حتى الآن. نشأ الوباء إما في آسيا الوسطى أو شرق آسيا ولكن ظهوره النهائي الأول كان في شبه جزيرة القرم عام 1347. من المرجح أنه تم حمله من شبه جزيرة القرم عن طريق البراغيث التي تعيش على الفئران السوداء التي سافرت على متن السفن التجارية، وانتشرت عبر حوض البحر الأبيض المتوسط ​​ووصلت إلى شمال إفريقيا وغرب آسيا وبقية أوروبا عبر القسطنطينية وصقلية وشبه الجزيرة الإيطالية.

هناك أدلة كثيرة تؤكد على أنه بمجرد وصوله إلى الشواطئ، انتشر الموت الأسود من شخص لآخر على هيئة طاعون في الرئة، مما يفسر الانتشار الداخلي السريع للوباء، والذي كان أسرع مما كان متوقعًا إذا كان الناقل الأساسي هو براغيث الفئران!

حتى الآن، يوجد جدل قائم حول السبب الرئيسي في انتشار وباء الموت الأسود، ولكن معظم الباحثين يؤكدون أن (اليرسينيا الطاعونية) هي العامل الرئيسي لانتشار الوباء. هذا بالإضافة إلى مزيج من الطاعون الدبلي مع أمراض أخرى، بما في ذلك التيفوس والجدري والتهابات الجهاز التنفسي. بالإضافة إلى العدوى الدبليّة. يشير آخرون إلى أسباب إضافية مثل إنتان دموي (نوع من “تسمم الدم”) و الطاعون الرئوي، مما يطيل مدة تفشي المرض في جميع أنحاء الجسم.

أعراض طاعون “الموت الأسود”

تشمل أعراض المرض الحمى ( 38-41 درجة مئوية)، والصداع، وآلام المفاصل، والغثيان والقيء، والشعور العام بالضيق. إذا تُرك المصابين في هذه الحالة بدون أي نوع من أنواع العلاج، فيموت حوالي 80% منهم في غضون ثمانية أيام تقريبًا!

تتنوع الروايات المعاصرة عن الجائحة وغالبًا ما تكون غير دقيقة. كان أكثر الأعراض شيوعًا هو ظهور الدبل (أو الجافوتشيولوس) في الفخذ و الرقبة والإبط، والذي ينزف صديدًا ونزيفًا عند فتحه.

المرض كان يظهر عند الرجال والنساء على حدٍ سواء. الظهور المبدئي للمرض كان أورام في الفخذ والإبط، بعض تلك الأورام ينمو بحجم بيضة صغيرة، وبعضهم ينمو بحجم تفاحة كاملة. بعد ذلك يبدأ المرض في الانتشار بشكل أكبر  في جميع اتجاهات الجسم ويظهر كبقع سوداء على الذراع والفخذ وبعض المناطق الأخرى في الجسد. 

بعد ذلك تزداد الأعراض فيُصاب حاملي المرض بحمى شديدة للغاية مع قيء دموي. معظم الضحايا كانت تتوفى بين يومين إلى 7 أيام تقريبًا من الإصابة الأولية، وكل البقع والطفح الجلدي الذي واجه البشر آنذاك تم التعرف عليه على أنه لدغات من البراغيث التي نقلتها الفئران السوداء حول العالم عبر سفن التجارة.

الانتشار العالمي للموت الأسود بسرعة خرافية

انتشار وباء الموت الأسود بدأ من آسيا، ولكن سرعان ما انتشر إلى مصر وشمال افريقيا بشكل عام. بعد ذلك قامت السفن التجارية بنقل الوباء إلى كل دول أوروبا، ولكن أكثر الدول التي أُصاب سكانها بالمرض كانت فرنسا وإيطاليا. الوباء قضى على حوالي 90% من مدينة فلورنسا في إيطاليا لدرجة أنها أصبحت مدينة أشباح. في بعض الأوقات، كان لا يتم دفن الأشخاص الذين يموتون لأنه لا يوجد أي شخص على قيد الحياة حتى يدفنهم!

يُقال أنه تم القضاء على حوالي 40 لـ 60% تقريبًا من سكان الدول الأوروبية في ذلك الوقت. العالم بأكمله آنذاك كان يسكنه حوالي 500 مليون شخص، ومات منهم تقريبًا بين 155 و 200 مليون خلال فترة انتشار الوباء. نعم حوالي 40% تقريبًا من سكان العالم قد تم القضاء عليهم بشكلٍ كامل في عدة سنوات بسيطة.

بعض سكان المدن الفرنسية تركوا مناطقهم بأكملها وفروا منها هاربين ظنًا أن المرض لن يتبعهم في البرية، ولكنهم كانوا مخطئين. المرض كان قد انتشر بالفعل في الماشية ومختلف الحيوانات، والتي بدورها نقلت الأمراض إلى البشر.

بكتيريا (اليرسينيا الطاعونية) كانت تنتقل بعدة أشكال، ولكن الفئران السوداء كانت السبب الرئيسي في نقلها حول كل مناطق العالم. الفئران كانت تعيش بكميات كبيرة في سفن النقل والتجارة، وبمجرد ما تهبط تلك السفن في إحدى الموانئ، كانت تخرج من السفن لتعيش في البرية وبين سكان المدينة. تموت الفئران وهي تحمل بكتيريا اليرسينيا الطاعونية، ثم تبدأ البكتيريا في البحث عن مُضيف ملائم لها، ولا يوجد أي مُضيف ملائم أكثر من البشر.

التقارير تؤكد أن 99.8% من البشر آنذاك كانوا معرضين للإصابة بالموت الأسود، وبالطبع معظمهم يموتون. ولكن حوالي 0.2% من الأشخاص كانوا يمتلكون جينات تمنحهم أفضلية على المرض لأن تلك الجينات أدت لوجود مناعة في أجسادهم تمنع دخول المرض وتمنع تعرضهم للإصابة بأي شكل من الأشكال.

“الموت الأسود” ظل نشطًا لقرون عديدة

بالطبع كان سيتم لوم الدين مثلما يحدث في أي وقت. نظرًا لأن المعالجين والحكومات في القرن الرابع عشر كانوا في حيرة من أمرهم لتفسير المرض أو إيقافه، لجأ الأوروبيون إلى القوى الفلكية والزلازل وتسميم الآبار من قبل اليهود كأسباب محتملة لتفشي المرض. اعتقد الكثيرون أن الوباء كان عقابًا من الله على خطاياهم، ويمكن التخلص منه بفوز مغفرة الله.

ووقعت عدة اعتداءات على المجتمعات اليهودية. في مذبحة ستراسبورغ في فبراير 1349، قُتل حوالي 2000 يهودي. في أغسطس 1349، تم القضاء على الجاليات اليهودية في ماينز وكولونيا. بحلول عام 1351، تم تدمير 60 مجتمعًا يهوديًا رئيسيًا و 150 مجتمعًا يهوديًا صغيرًا. خلال هذه الفترة، انتقل العديد من اليهود إلى بولندا، حيث لقوا ترحيبًا حارًا من الملك كازيمير الكبير!

من الناحية البيئية، فتشير دراسة أجراها توماس فان هوف من جامعة أوترخت إلى أن الوفيات التي لا حصر لها والتي سببها الوباء قد أدت إلى تبريد المناخ عن طريق تحرير الأرض، وقد يكون هذا قد أدى إلى العصر الجليدي الصغير.

عاد الطاعون مرارًا وتكرارًا ليطارد أوروبا والبحر الأبيض المتوسط بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر. كان الطاعون موجودًا في مكان ما في أوروبا كل عام بين عامي 1346 و 1671. التطورات اللاحقة للوباء (على الرغم من حدتها) إلا أنها تراجعت عن معظم أوروبا وشمال أفريقيا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. 

الموت الأسود أذى العالم الإسلامي بشكل كبير حيث ضرب دول شمال افريقيا بشكل متكرر. فقدت الجزائر بين 30 – 50 ألف من سكانها في الفترة بين 1620 و 1621 ثم استمر الطاعون في الانتشار داخل الجزائر خلال القرن السابع عشر والنصف الأول من القرن الثامن عشر.

عانت القاهرة من أكثر من خمسين وباء طاعون في غضون 150 عامًا، وظل الطاعون حدثًا رئيسيًا في المجتمع العثماني حتى الربع الثاني من القرن التاسع عشر. تم تسجيل أكثر من 100 نوع من الأوبئة في القسطنطينية خلال القرن الثامن عشر. بغداد أيضًا عانت من الطاعون وفي بعض الأحيان تم القضاء على ثلثي سكانها.

هل طاعون “الموت الأسود” لا يزال متواجدًا في عالمنا حتى يومنا هذا؟

نعم الموت الأسود لا يزال متواجدًا في عالمنا، ولكن مع التقدم الطبي أصبح مرض مثل أي مرض. في الفترة بين 2010 و 2015 تم تسجيل أكثر من 3200 حالة مُصابة بالمرض (لا توجد معلومات حول عدد الوفيات).

في الولايات المتحدة الأمريكية، كل عام يُصاب حوالي 9 أو 10 أشخاص بالطاعون، ولكنه لا يؤثر فيهم على المدى الطويل حيث يتم علاجه باستخدام التطورات الطبية التي توصل إليها العلم في وقتنا الحالي. بشكل عام، طاعون الموت الأسود يمكن اعتباره خاملاً بشكل نهائي في الوقت الراهن، ولا توجد أي تنبؤات حول نشاطه مرةً أخرى.

في النهاية، يجب أن نحمد الله على مرور وباء COVID-19 بهذا الشكل. على الرغم من أن المرض قد قضى بالفعل على الملايين حول العالم، إلا أنه لا يُقارن ولو بـ 5% مما فعله “الموت الأسود” في العالم خلال العصور الوسطى. نتمنى من الله ألا يُصاب العالم بأي وباء بهذا الحجم في أي وقت خلال الأعوام المُقبلة، ونتمنى لك عزيزي القارئ أن تعيش حياة سعيدة بعيدة عن الأمراض.

بعض الأعمال حول الموت الأسود التي أنصح بالاستمتاع بها:

أقرأ أيضًا:

Exit mobile version