“ترافيس” سائق التاكسي…سيزيف ما بين العبثية و المعنى

العبثية، العدم، العزلة الأنطولوجية، الوجودية…كلها مفاهيم و براديغمات بلور على أساسها مارتن سكورسيزي فيلمه Taxi driver (سائق التاكسي) و اتخذها صرحا لبناء و تسويق الفكرة الاساسية التي يتمحور حولها الفيلم.

خصص الفيلسوف و الكاتب الفرنسي “ألبرت كامو” رائد مذهب العبثية كتابه “سيزيف” للحديث عن ماهية وجود الإنسان في الحياة، فمثله بالأسطورة الاغريقية “سيزيف” الذي تمرد عن ملك الموت فغضب عليه كبير الآلهة “زيوس”، فقرر هذا الأخير معاقبة “سيزيف” بإجباره على دحرجة صخرة ضخمة ثقيلة إلى قمة أحد الجبال الشاهقة، و كلما وصل “سيزيف” للقمة يرغمه “زيوس” على معاودة الكرة و دحرجتها إلى القمة، هكذا كان عقابه أليما شاقا وأبديا سرمديا دونما هوادة أو غاية أو هدف يذكر…

لوحة تشكيلية للأسطورة الإغريقية “سيزيف”

ليخلص ألبرت رامو إلى فكرة مفادها أن الكائن الإنساني يعاني و يتجرع المشقات و العذاب في مختلف محطاته حياته، و أن مصدر هذا الأسى و الألم هو إحساسه الدائم بالعدمية و انعدام القيمة تجاه الحياة و غياب أهداف حقيقية، فيستمر طوال الوقت وهو يطرح أسئلة مبهمة من قبيل: ما الغاية من الحياة؟ و ماالمعنى الذي يتضمنه هذا العالم غير المعقول؟ هل حياة كهذه تستحق ان تعاش؟ و ما السبيل إلى الانسلاخ من شرنقة هذه الحالة الهستيرية الجنونية التي تؤرق العقل و تتعب النفس؟ قد لا يجد أي كائن عبثي منا الجواب على هذه الاسئلة، لكن “ترافيس” وجد جوابه و أبى إلا أن يمضي قدما في تحقيق غاية وجوده في الحياة.

“ترافيس بيكل” شاب يبلغ من العمر 26 سنة يدفعه أرقه بالليل إلى العمل كسائق لسيارة أجرة، لكن مهنته الليلية هاته كشفت له عن الوجه القبيح و المظلم لبلدته، حيث يستفحل الفساد و الرذائل و بائعي الهوى باختلاف أصنافهم…وكلما توالت الأيام و الأسابيع كلما ذاق ترافيس ذرعا بالوضع الفوضوي و الوضيع الذي آلت إليه المدينة خصوصا و أنه يتواصل مع شخصيات قذرة و سفيهة بسبب مهنته كما وصفها في أحد المشاهد، يمضي الزمن فيتعرف ترافيس على فتاة بهية الطلة و الجمال غير أن علاقته بها سرعان ما انقطعت، فتتظافر الضغوط على ترافيس بسبب تلقيه للرفض من جهة و بسبب روتينه الممل من جهة اخرى و بسبب إحساسه بالوحدة العارمة و عدم إحساسه بقيمة الحياة من جهات أخرى…الشعور بالعدمية و الفراغ الموحشين كانا حافزان قويين دفعا بترافيس للتفكير مليا في خوض غمار مغامرة يكسر بها هذا الشعور القاسي بداخله و يكسبه تقديرا للذات و يضفي أثرا إيجابيا في محيطه و في الناس القريبين له…

يجتر ترافيس ذكرياته ليتذكر فتاة كانت تحاول الهروب من أحد الشبان أثناء ركوبها في التاكسي، فيقرر تعقب أثرها و اكتشاف سرها خصوصا و أنه يصادفها تتسكع في الزقاق كل ليلة، يتضح في ما بعد أن تلك الفتاة الشقراء التي تظهر تقاسيم وجهها انها لا تزال طفلة لا تتعدى 12 سنة ، وأنها فتاة ليل و أن لباسها و تبرجها المبهرج الصاخب يضيف سنوات على عمرها الحقيقي، غير أن ما استوقف ترافيس و جعله يقف مشدوها لدقائق هو طريقة كلام الشاب الذي كان يلاحقها سابقا، بعدما اكتشف أيضا أنه مستغل يترأس وكر دعارة. هنا يضع ترافيس اخيرا هدفا صوب عينيه و يمضي في الإعداد له و العمل على تحقيقه بالتدرب و التزود بالاسلحة.

أراد سكورسيزي أن يصنع نسخة ناجحة من الميثولوجيا الإغريقية “سيزيف”، لتنتهي القصة بتحقيق ترافيس لهدفه و إنقاذ الفتاة من الظروف المهينة التي كانت تعيش بها و إرسالها سالمة غانمة إلى والديها لتحيا حياة طبيعية تليق بها، و كذا انتقامه من كل المستغلين الذين كانوا يمارسون تلك الأنشطة غير القانونية، ليغدوأكثر من سائق…بل إنسانا ذو قيمة و معنى، تكتب عنه الصحف و تلقبه بالبطل الذي يطهر المدينة من الوضاعة و الحثالة.

Exit mobile version