شهدت اسكتلندا في أواخر القرن السادس إيمانا قويا من لدن مواطنيها بأعمال السحر الأسود والشعوذة، وكانت أغلب أحاديث الساكنة تدور في فلك الشياطين وقدرتهم القوية على إثارة العواصف وقتل الماشية ونشر الأمراض الفتاكة، وسلموا أن الشيطان يسعى لتشتيت المجتمع والقضاء على لحمته، وكان يجند عملاء سريين للقيام بأعماله الشريرة، هؤلاء العملاء كانوا سحرة، لذلك كانت تعمل السلطات على القضاء عليهم من أجل حماية المملكة وضمان الأمن والسلام لمواطنيها وللعائلة الملكية.
كيف بدأت القصة؟
في سبتمبر 1589، أبحرت “آن” من الدنمارك وهي ملكة اسكتلندا الجديدة، للسفر إلى مملكتها الجديدة، بعد زواجها للتو من الملك جيمس السادس، وكان من المتوقع أن تصل بسرعة إلى اسكتلندا لمقابلة زوجها الجديد. لكنها لم تصل في الوقت الموعود، فقد كانت رحلة آن كارثية، حيث دمرت العواصف الشديدة سفينتها فاضطرت إلى الرسو في النرويج لإصلاح الأعطال، وبعد ذلك أبحرت السفينة من جديد لكن لم تلبث إلا أن تعطلت مجددا. بسبب ذلك تم اتخاذ القرار بتأجيل الرحلة حتى الربيع، وبقيت آن في النرويج.
غضب الملك “جيمس” حينما سمع الخبر ورفض الانتظار إلى غاية فصل الربيع لرؤية عروسه. فقرر الذهاب إلى النرويج بنفسه لجلب ملكته، وانتهى به الأمر بالبقاء لعدة أشهر معها في كل من النرويج والدنمارك. ثم عاد إلى اسكتلندا بعد مشقة وصعوبة نظرا للعواصف التي لم تتوقف عن اعتراض طريقهم، لكن ظروف رحلة آن الفاشلة والوقت الذي أمضاه في الدنمارك أشعلت هوس جيمس بالسحر، مقتنعًا بأن العاصفة التي كادت أن تكلف حياته قد استدعت بواسطة السحر، وبالتالي كان عازمًا على تقديم الجناة إلى العدالة.
بعد سنة تم عقد محاكمة من أكبر محاكمات السحرة في التاريخ الأسكتلندي، حيث تم القبض على ما لا يقل عن 70 شخص في “نورث بيرويك”، للاشتباه في قيامهم بإثارة تلك العاصفة، وسرعان ما اعترف معظم المشتبه بهم -تحت التعذيب – بتلفيق مجموعة من التعويذات والطقوس الغريبة والمخيفة من أجل إثارة العاصفة. وشملت هذه الطقوس ربط أعضاء التناسلية مقطوعة مع أطراف رجل ميت بأرجل قطة، ثم رمي الحزمة في الأمواج وفي رواية أخرى، قيل إن الشيطان نفسه ظهر للسحرة و “وعد بإثارة ضباب، والرمي بالملك بعيدا من حيث أتى”.
شعر جيمس بالفزع الشديد عندما سمع تلك الروايات لدرجة أنه قرر أن يشرف بنفسه على الاستجوابات. فأحضر إليه أحد المشتبه بهم الرئيسيين، “أغنيس سامبسون” حتى يتمكن من استجوابها بنفسه. لكنها “وقفت بصلابة وأنكرت التهم الموجهة إليها، فأمر بحلق شعرها بالكامل، وشد رأسها وأطرافها بحبل معذبا إياها ومسببا لها الألم الشديد المتواصل لمدة ساعة، إلا أن استفزته ببعض الحقائق التي انتفض لها غاضبا. لكنها أخذته بهدوء إلى جانب وأقنعته بقواها السحرية بإخباره “أمور سرية” معينة كانت قد مرت بينه وبين زوجته الجديدة ليلة زفافهما. اندهش جيمس من قدراتها العجائبية. فأقسم على محاربة السحر والشياطين موقنا أن كل ذلك حقائق ثابتة وليس خرافات كما يشاع.
أوروبا الشمالية ومطاردة الساحرات:
كانت عمليات مطاردة الساحرات التي اجتاحت أوروبا من عام 1450 إلى عام 1750 من أكثر الظواهر إثارة للجدل والرعب في التاريخ، إذ كانت تعتبر بمثابة محرقة إبان تلك الحقبة التاريخية، حيث احتجز الجيش الأسكتلندي حوالي 100000 شخص من النساء، كما تم إعدام نصفهم، وهو ما دفع بالمؤرخين منذ فترة طويلة شرح سبب وظروف انتشار السحر والشعوذة بأوروبا تحديدا بالدنمارك واسكتلندا.
لم تكن اسكتلندا وحدها التي وقعت ضحية فزع السحر في أواخر القرن السادس عشر والنصف الأول من القرن السابع عشر، حيث ابتليت أوروبا بأسرها بصيد الساحرت بما في ذلك إيطاليا وسويسرا وألمانيا والدول الاسكندنافية.
يمكن القول إن مطاردة السحرة هي عبارة عن امتداد للإصلاح البروتستانتي، حيث سعى وزراء الرعية والسلطات الحكومية إلى إنشاء “دولة تقية”، والقضاء على الخطيئة والفجور. لكن من الناحية العددية، كانت مطاردة الساحرات في اسكتلندا شديدة، بين عامي 1590 و1662، وتفوقت على باقي الدول من حيث تفشي السحر الأسود والشعوذة.