تعاني البشرية منذ بداية عام 2020 من جائحة covid-19، والتي أزهقت حتى تاريخ كتابة هذا المقال حياة قرابة 4 مليون و نصف ضحية حول العالم، وقد ضاق ذرع العديد منّا من إجراءات الحظر والتباعد الاجتماعي التي فرضتها علينا هذه الجائحة، والقيود على حركة المواطنين و التنقل بين البلدان، وعلى الرغم من قساوة هذه الظروف التي نعاصرها، إلا أنها تغدو بسيطة إذا ما قورنت بجائحة الطاعون الدبلي (الموت الأسود) التي اجتاحت أوروبا و العالم في العصور الوسطى لما يقارب الـ20 عاماً، وسببت وفاة 75-200 مليون منهم ثُلث سكان أوروبا!
بداية الطاعون:
يُعتقد أن بدايات مرض الطاعون لها آثار تعود إلى 3000 عام قبل الميلاد، إلا أن الجائحة التي نتحدث عنها بدأت في الظهور في مطلع القرن الرابع عشر في آسيا، حيث انتشرت عبر الصين و الهند و آسيا الوسطى، وصولاً إلى سوريا و مصر في الشرق الأوسط، متتبعةً طرق القوافل التجارية آنذاك.
انتقل الطاعون بعدها إلى أوروبا عبرميناء ميسينا في صقلية في حوالي العام 1330، إذ وصلت قافلة تجارية قادمة من البحر الأسود مؤلّفة من عشر سفن إلى الميناء الصقليّ، إذ تفاجأ عمال الميناء بكون معظم طاقم سفن القافلة موتى، و القلة الباقية منهم على قيد الحياة كانوا يعانون من أعراض الطاعون الشديدة.
سبب المرض و أعراضه:
تميّز الطاعون الدبلي بفعالية إمراضية شديدة، إذ كان لا يفرق بين صغير وكبير، صحيح أو مريض، حيث “كان الشخص ينام سليماً فلا يستيقظ في الصباح التالي لأنه مات بأعراض الطاعون” حسب وصف الناس آنذاك، إذ إن المرض كان يتظاهر بتورم في منطقة المغبن و تحت الإبطين، ما يلبث هذا التورم أن يتلون باللون الأسود نتيجة امتلائه بالدم والقيح، فالجرثومة كانت تصيب جهاز الدوران اللمفاوي للجسم، ثم تنتقل منه إلى الرئتين و تتطور مسببة أعراضاً مميتة.
اكتشف الطبيب ألكسندر يرسن الباكتيريا المسببة للطاعون عام 1894، وهي عصيات جرثومية سميت لاحقاً باسمه “اليرسينية الطاعونية”، إلا أن الأطباء في ذلك الزمان لم تكن لديهم المعلومات الكافية عن العامل المسبب للمرض، ولا عن الطريقة الصحيحة للتعامل معه.
ذروة الانتشار:
انتشرت عصيّات الطاعون عن طريق الهواء، أو عن طريق عضّات الجرذان الناقلة للطاعون و البراغيث التي تحملها، إلا أن هذا الأمر لم يكن واضحاً لدى الناس حينها، ما أدى إلى انتقاله من ميناء ميسينا إلى ميناء مارسيليا في فرنسا، ومنه إلى روما و فلورنسا في إيطاليا؛ مركز طريق التجارة بين المدن الأوروبية آنذاك، مما أدى إلى تفشي الجائحة سريعا بعد ذاك ، ومكوثها 20 عاما في عموم القارة العجوز.
تباينت التفسيرات في تأويل طريقة انتشار المرض و أسبابه آنذاك نتيجة انعدام المعرفة الكافية، فظن البعض أن “روح المرض تنسلّ من عيون الشخص المريض إلى عيون السليم”، بينما راح آخرون إلى الاعتقاد بأن الجائحة عقاب ربّاني على ذنوب البشر من هرطقة وكفر، الأمر الذي أشعل فتيل مجازر جماعية راح ضحيتها آلاف اليهود الأوروبيين، لجؤوا على إثرها إلى أوروبا الشرقية الأقلّ سكاناً و الأبعد عن جو الوباء.
ابتعد معظم الأطباء عن المرضى خوفاً من انتقال العدوى إليهم، وعزف رجال الدين عن تأبين الضحايا للسبب نفسه، واقتصرت محاولات العلاج على إجراءات ضررها أكبر من نفعها في الغالب كإراقة الدم، وثقب التورم بوساطة أدوات تم تسخينها بالماء المغليّ، وفي أحسن الأحوال حرق مجموعة من الأعشاب و استنشاق دخانها.
نهاية الجائحة:
تراجعت حدة الجائحة بعد عشرين عاماً بعد أن قبضت أرواح ثلث سكان القارة، وقد تعلم الأوروبيون من تجربتهم المريرة هذه، إذ أصبحوا يحجزون طواقم السفن التجارية في سفنهم 40 يوماً حتى يتأكدوا أنهم لا يحملون أي أوبئة أو أمراض سارية، و من هنا جاءت الكلمة الشهيرة التي سمعنا بها كثيراً مؤخراً (quarantine).
لا يزال يسجل لليوم 1000-3000 حالة طاعون سنويا وفق منظمة الصحة العالمية، إلا أن العلاج أصبح في متناول اليد في أيامنا هذه.