شهد صيف العام 1914 تصعيداً غير مسبوق في إنذارات الحرب بين الدول الأوروبية العظمى آنذاك، والقائمة على النزعات القومية؛ إذ نشأت تحالفات بين الدول التي تجمعها المصالح المشتركة، كالإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية النمساوية المجرية من جهة، والإمبراطورية الروسية مع حليفها الصغير صربيا من جهة أخرى، وبلغ التسليح والإنفاق العسكري ذروته، حيث كان كل ما يتطلبه الأمر فتيلاً صغيراً ليفجّر نيران المواجهة بين الأمم المشحونة، فتيلاً كان صاحبه بطل قصتنا السائق “ليوبولد لويكا”.
زيارة الأرشيدوق النمساوي إلى سراييفو جاءت في وقت “مهين”.
تم الإعلان عن زيارة الأرشيدوق النمساوي “فرانس فيرديناند” بتاريخ الـ28 من يونيو من صيف العام 1914 إلى عاصمة البوسنة والهرسك “سراييفو”؛ والبوسنة والهرسك جزء من منطقة الشعوب السلافية (تضم أيضاً صربيا ودولاً أُخرى تنتمي جميعها للعرق السلافي) التي كانت قد تخلصت من فترة قريبة من سلطة الإمبراطورية العثمانية، لترزح بعدها تحت احتلال الإمبراطورية النمساوية المجرية بدعم وتشجيع من الإمبراطورية الألمانية، مبددين أحلامهم في تشكيل دولة قومية على خطى باقي الدول في القارة في تلك المرحلة. حيث جاءت تلك الزيارة في تاريخ اعتبره القوميون الصرب مهيناً –يوم القديس فيتوس-؛ اليوم الذي خسروا فيه عام 1389 معركة كوسوفو مع الدولة العثمانية، مما أثار غضب العديد من الجماعات القومية الصربية، ومنها جماعة اليد السوداء.
كان الأرشيدوق النمساوي “فرانس فيرديناند” ولي عهد عرش الامبراطورية النمساوية المجرية، والمفتش العام للجيش، إذ كان المقصد من زيارته الإشراف على التدريبات العسكرية لجيش الإمبراطورية التي تُجرى هناك.
الأرشيدوق ينجو من محاولة الاغتيال الأولى.
في بداية الزيارة تعرض الأرشيدوق النمساوي لمحاولة اغتيال نفّذها “نيدليكو سابرينوفيتش”؛ أحد أعضاء جماعة اليد السوداء القومية الصربية، إذ قام برمي قنبلة على الموكب الملكيّ، إلا أن سائق سيارة الأرشيدوق نجح في تفاديها بزيادة سرعته، إلا أنّها أصابت السيارة التي خلفها مؤدية لإصابة عدد من الاشخاص منهم “أوسكار بوتيوريك” الحاكم العسكري للبوسنة.
على الرغم من محاولة الاغتيال إلا أنّ الأرشيدوق فيرديناند أصرّ على إكمال جولته إذ توجّه إلى مقر البلديّة في العاصمة سراييفو وعبّر عن غضبه “لاستقباله بالقنابل، عوضاً عن استقباله بالورود” حسب وصفه.
نجى من الأولى، لكن الثانية كانت القاضية!
بعد إنهاء جولته، توجّه الأرشيدوق إلى المشفى لزيارة المصابين في محاولة الاغتيال، وفي الطريق إلى المشفى، انعطف السائق “ليوبولد لويكا” انعطافا خاطئاً إلى اليمين نتيجة سوء فهم للتعليمات المعطاة إليه، مما وضع السيارة أمام أحد أعضاء جماعة اليد السوداء مباشرة، ألا وهو “غافريلو برينسيب” ذو ال19 ربيعاً، الذي لم يلبث أن استغلّ الفرصة مباشرة وقام بإخراج مسدسه وإطلاق النار على الأرشيدوق فيرديناند وزوجته صوفيا، ممّا أدى إلى مفارقتهما الحياة على الفور؛ مشعلاً بذلك فتيل إحدى أكبر الحروب في التاريخ البشري.
نتيجة الاغتيال.
بعد الاغتيال بشهر تماماً، بتاريخ 28 يوليو من عام 1914، أعلنت الإمبراطورية النمساوية المجرية الحرب على صربيا، ووقفت إلى جانبها الإمبراطورية الألمانية، والإمبراطورية العثمانية، والإمبراطورية الإيطالية في بداية الحرب. بالمقابل، وقفت الإمبراطورية الروسية إلى جانب صربيا، بالإضافة إلى كل من فرنسا وبريطانيا االعظمى، والولايات الأمريكية المتحدة لاحقاً في نهاية الحرب.
انتهت الحرب بهزيمة الإمبراطورية النمساوية المجرية وحلفاءها وتفككها، وسقوط ما يقارب ال17 مليون ضحية بين جنود ومدنيين كنتيجة مباشرة للحرب التي استمرت قرابة ال4 أعوام، و انتهت بتوقيع معاهدة فرساي بباريس عام 1919.
أما عن “غافريلو برينسيب” الذي قام بعملية الاغتيال، فقد تمّ الحكم عليه بالسجن ل20 عاماً لأنه كان صغيراً لم يبلغ ال20 بعد. في وقت لاحق من العام 1918 توفي “برينسب” في السجن متأثراً بمرض السل.